الطلاق يُغير كيمياء الدماغ.. تأثير الانفصال على الصحة الجسدية والنفسية للآباء والأبناء

تختلف معدلات الطلاق حول العالم بشكل كبير، حيث تلعب العوامل الثقافية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية دوراً محورياً في تحديدها، ولكن بعيداً عن هذه الاعتبارات، يظل الطفل هو الأكثر تأثراً بهذا القرار، حيث يرى عالمه الصغير ينهار أمام عينيه، فما يشغل تفكيره فقط هو أن الأسرة التي اعتاد عليها لم تعد موجودة، ولن يجتمع والداه معاً على مائدة الطعام، لتبدأ رحلة نفسية صعبة، مليئة بأسئلة لا إجابات واضحة لها، وفي الوقت نفسه، يواجه الزوجان تداعيات نفسية عميقة، حتى لو كانا يعتقدان أن الانفصال هو القرار الصحيح.

في العالم العربي تتفاوت معدلات الطلاق بشكل ملحوظ، وتعتمد هذه المعدلات على مصادر البيانات وفترات الإحصاء المختلفة، ووفقاً لتقرير نشره موقع "Data Pandas" لعام 2024، كانت معدلات الطلاق لكل 1000 شخص في بعض الدول العربية، تتضمن ما يلي:

ليبيا: 2.5 حالة طلاق.

مصر: 2.3 حالة طلاق.

السعودية: 2.1 حالة طلاق.

الجزائر: 1.6 حالة طلاق.

الأردن: 1.6 حالة طلاق.

لبنان: 1.6 حالة طلاق.

سوريا: 1.3 حالة طلاق.

الكويت: 1.3 حالة.

الإمارات العربية المتحدة: 0.7 حالة طلاق.

قطر: 0.7 حالة طلاق.

ولفهم الآثار السلبية للطلاق على المدى البعيد من النواحي النفسية والجسدية والجنسية، حاورت "بوابة صحة" الطبيب النفسي الهندي سارثاك ديف لمعرفة الجوانب الخفية للطلاق، وكيف يعيش أفراد العائلة بعد خوض هذه التجربة.

هل الطلاق يؤثر على الرجل والمرأة بطريقة مختلفة؟
تختلف التأثيرات النفسية للطلاق بين الرجال والنساء

هل الطلاق يؤثر على الرجل والمرأة بطريقة مختلفة؟

أوضح "ديف" أن الانفصال بين الزوجين يمكن أن يترك ندبة شبه دائمة في العقل، حيث يحطم جميع الثوابت التي كانت تُشكل أساس الحياة الزوجية، وتختلف التأثيرات النفسية للطلاق بين الرجال والنساء، حيث يواجه كل منهما تحديات فريدة تعكس الأدوار الاجتماعية والضغوط الثقافية.

- الرجال والطلاق:

عادةً ما يجد الرجال صعوبة في التعبير عن مشاعرهم، حيث يفتقدون زوجاتهم أو يشعرون بالوحدة الشديدة، ولكنهم يكونون غير قادرين على مشاركة هذه المشاعر، وبدلاً من ذلك، يدفنون أنفسهم في العمل، كما أنهم يواجهون بعض المخاطر، بما في ذلك التفكير في تعاطي المخدرات، وعلى الرغم من هذه المرحلة الانتقالية الصعبة، يتوقع المجتمع من الرجال أن يبدو أقوياءً بغض النظر عما يمرون به، وهذا الضغط الاجتماعي يمنعهم من الانفتاح على مشاعرهم، ونتيجة لذلك، يلجأون إلى طرق غير صحية للتعامل مع حزنهم.

-النساء والطلاق:

تشعر النساء بحرية شديدة عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن مشاعرهن، وبالتالي يتلقين دعماً عاطفياً أفضل من الدوائر الاجتماعية المحيطة، كما يواجهن العديد من التحديات، بما في ذلك ضغوط مجتمعية وعائلية للزواج مرة أخرى، ما يزيد من معاناتهن خلال رحلة الحياة.

التحديات الجنسية التي تواجه الشريكين بعد الطلاق

أشار الطبيب النفسي إلى أن العلاقة الجنسية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلامة العاطفية والعقلية للزوجين، وكون الطلاق تجربة مرهقة عاطفياً للغاية، يمكن أن تؤثر بشدة على الحالة العقلية للفرد، ما يجعله بالكاد قادراً على أداء وظائفه في الحياة اليومية، وبالتالي يؤدي الاضطراب العاطفي إلى خسارة كبيرة في الرغبة الجنسية لكل من الرجال والنساء.

وأضاف: "سيواجه الرجال صعوبة في تحقيق الانتصاب أو الحفاظ عليه، ما يزيد من الضيق النفسي، ومن ناحية أخرى، يزداد معدل جفاف المهبل لدى النساء، إضافةً إلى عدم الشعور بالراحة وانخفاض الرغبة في العلاقة الحميمية"، وبالتالي فإن الثقل العاطفي للطلاق –مشاعر الرفض والوحدة والحزن– يمكن أن يحرمك من الاسترخاء، ما يزيد تفاقم التحديات الجسدية وتعطيل الاستجابة الجنسية الطبيعية.

الأبناء الخاسر الأكبر من انفصال الزوجين
يعاني الأبناء من فقدان الأمان والقدرة على تكوين علاقات صحية

الأبناء الخاسر الأكبر من انفصال الزوجين

يقول "ديف" إن الأطفال يتعرفون على العالم الخارجي، بما في ذلك العواطف والعلاقات وأنماط السلوك من خلال مراقبة والديهم، ومن خلال هذه العدسة يفهمون الحب والثقة والسلام والمشاعر الإيجابية الأخرى، ومع ذلك، عندما يفتقر الوالدان إلى هذه المشاعر في علاقتهما ويفشلان في إظهار الحب والثقة، يُحرم الطفل من هذه الأسس العاطفية الأساسية، ونتيجة لذلك، يكبر الأبناء وهم يعانون من فقدان الأمان والقدرة على تكوين علاقات صحية.

ولفت الطبيب الهندي: "يظهر هذا العجز العاطفي على شكل صعوبة في تطوير روابط عاطفية ذات معنى أو علاقات رومانسية، وفي كل مرة يحاولون التقرب عاطفياً من شخص ما، يثير عقلهم اللاواعي مشاعر الخوف من الارتباط وتكرار نفس حسرة القلب أو عدم الاستقرار الذي شاهدوه في علاقة والديهم، ويمكن لهذه المخاوف أن تخلق نمطاً من التجنب أو التدمير الذاتي، ما يجعل من الصعب عليهم الثقة بالآخرين وبناء علاقات دائمة ومرضية".

الصعوبات النفسية والصحية على الأبناء

من المؤكد أن الطلاق تجربة مؤلمة للأبناء بشكل عام، وهذا ما فسره ديف، قائلاً: "الطلاق يؤثر بشدة على الأطفال –الأولاد والبنات– حتى لو لم يكن الألم مرئياً دائماً، ويعاني الأطفال من كلا الجنسين بشدة، على الرغم من أنهم يتعاملون مع حزنهم ويعبرون عنه بشكل مختلف".

وأشار إلى أن الأبناء "الذكور" لا يستطيعون التعبير عن عمق آلامهم، ويرجع ذلك إلى أن المجتمع لا يشجع الأولاد على التعبير عاطفياً، وبحلول سن 7 أو 8 سنوات، يبدأون في قمع مشاعرهم لتجنب إظهار الضعف، وخلال هذه الفئة العمرية أيضاً، يفكرون في تحمل المسؤولية، وكأنهم هم السبب وراء الانفصال.

من ناحية أخرى، تتلقى الفتيات دعماً عاطفياً بشكل مباشر من الأقارب والأصدقاء، ومع ذلك، إذا كانت الابنة شقيقة لأخ أصغر، تتولى دور مقدم الرعاية له؛ لذا يمكن القول إن أطفال الوالدين المنفصلين ينضجون أسرع من أقرانهم.

الطلاق يزيد مستويات التوتر لدى الشريكينيسبب الطلاق ضغط نفسي وعاطفي على الطرفين 

الطلاق يزيد مستويات التوتر لدى الشريكين

الطلاق يكون بمثابة نقطة تحول في الحياة، حيث يغير بشكل كبير الديناميكيات الشخصية والاجتماعية، ويؤثر على الصحة العقلية أيضاً، ولا يقتصر الاضطراب العاطفي على الزوجين المنفصلين فحسب؛ بل يعاني جميع أفراد العائلة من ضائقة كبيرة، ويتصارعون مع مشاعر عدم الاستقرار والخسارة.

وفي هذا الصدد، لفت "ديف" إلى أن الطلاق يشكل ضغطاً هائلاً على الزوجين، ما يعرقل قدرتهم على التركيز وأداء الأنشطة اليومية، كما يؤدي هذا الضغط العاطفي إلى اضطرابات في الحياة المهنية، وشعور عام بفقدان الاهتمام بالحياة، والعزلة الاجتماعية، حيث ينسحبون أيضاً من التجمعات، ويتجنبون لقاء الأصدقاء والعائلة، إضافةً إلى ذلك، يصبحون عرضة لبعض الأمراض النفسية مثل التوتر والاكتئاب واليأس.

الطلاق يغير كيمياء المخ

ربما تعتقد أن الطلاق يؤثر على الجوانب النفسية والجسدية للزوجين فحسب، ولكن يمكن أن يتسبب في تغيير كيمياء المخ أيضاً، مُسبباً صدمة عميقة تُؤثر على فسيولوجيا الدماغ وتُعطّل عمل الجهاز العصبي، وهذا ما أكده "ديف"، حيث يؤدي التوتر الشديد والاضطرابات العاطفية المرتبطة بالطلاق أيضاً إلى تعطيل عمل الجهاز العصبي، مما يؤثر على قدرته على تنظيم العواطف والحفاظ على التوازن ومعالجة التجارب بفاعلية.

وأضاف الطبيب النفسي الهندي أن هناك العديد من الآثار الجانبية للتوتر الشديد الناتج عن الطلاق، بما في ذلك انخفاض إنتاج الناقلات العصبية الرئيسية مثل الدوبامين والسيروتونين، وهي مواد كيميائية مسؤولة عن مشاعر السعادة والتحفيز والاستقرار العاطفي، ونتيجة لذلك، يزداد معدل الشعور باليأس والحزن والخدر العاطفي، ويواجه الأفراد صعوبة في التواصل، ويشعرون بالانفصال عن محيطهم.

ومع مرور الوقت، يمكن لتأثير مثل هذه الصدمة أن يغير أنظمة معتقدات الفرد ونظرته للعالم، ما يؤثر على كيفية إدراكه للعلاقات، والثقة بالآخرين، والتعامل مع الحياة.

هل يكون الأطفال أكثر عنفاً مع شركاء المستقبل؟يصبح الأطفال أكثر عدوانية في علاقتهم عندما يصبحون بالغين

هل يكون الأطفال أكثر عنفاً مع شركاء المستقبل؟

تجربة الطلاق تعيد تشكيل شخصية الأطفال بشكل كبير، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الآخرين، وقال "ديف" إن التأثير يعتمد إلى حد كبير على طبيعة الانفصال والبيئة المحيطة به، كما أن تعرض الطفل للصراع، أو الإهمال العاطفي، أو الديناميكية غير الصحية بين والديهم -خاصةً أثناء الطلاق وبعده- يلعب دوراً حاسماً في تشكيل سلوكهم.

وأكمل حديثه: "إذا شهد الأطفال مشاجرات أو عدم احترام بين والديهم، فقد يستوعبون هذه السلوكيات كطرق مقبولة للتعامل مع النزاعات"، وبناءً على ذلك، يستخدم الأطفال الصراخ أو الغضب أو العنف أو العدوانية في علاقتهم عندما يصبحون بالغين.

وبالتالي يظل الطلاق قراراً مصيرياً وتختلف نتائجه وأسبابه، ولكنه ليس نهاية الحياة، ولا ينبغي أن ينتهي نهاية مأساوية، حتى لا يؤثر نفسياً وجسدياً على الزوجين والأبناء، ولا بُد أن يبذل الآباء كل ما في وسعهم في توصيل فكرة الطلاق إلى الأطفال بآلية صحية، تساعدهم بعد ذلك في بناء علاقات زوجية صحية مستقبلاً.