في عالمنا الرقمي الذي تغمره الصور والمنشورات قد يخشى كثيرون من أن نعتمد على التكنولوجيا في الحفظ أكثر من ذاكرتنا الذاتية، لكن العلم يُشير إلى أن هناك تقنيات بسيطة لا تتجاوز ثواني قليلة يمكن أن تساعدنا على تثبيت الذكريات في الدماغ بشكل أفضل.
دراسة حديثة نُشرت في مايو 2025 بمجلة Progress in Neurobiology تحت عنوان "Awake reactivation of cortical memory traces predicts subsequent memory retrieval" توضح أن فترات الاستراحة الواعية (أي أثناء اليقظة وليس النوم) يمكن أن تُعزّز ترسيخ الذكريات.
في هذه الدراسة، استخدم الباحثون تسجيلات كهربائية داخلية (iEEG) لدى 11 مريضًا أثناء تعلمهم لاتّصال بين كائن وموقعه ثم سمحوا لهم بفترات قصيرة من الراحة بعد التعلم.
وُجد أن الذكريات التي أُعيد تنشيطها خلال تلك الفترات هي أكثر احتمالًا أن تُسترجع لاحقًا، كما رافق هذا الاسترجاع نشاطات في الحُصين وتواصل بين الحُصين والقشر الدماغي، مما يدعم فكرة أن الدماغ يساهم في “ترميم” الذكريات حتى أثناء اليقظة.
هذا الاكتشاف مهم لأنه يُظهر أن تثبيت الذكرى لا يعتمد فقط على النوم أو التركيز بعد وقت طويل بل يمكن أن يبدأ مباشرةً بعد الحدث من خلال فترات راحة واعية.
الدماغ يختار الذكريات التي يحفظها
من وجهة نظر نظرية، يقترح بحث منشور في مجلة eLife يوليو 2024 بعنوان "Selective consolidation of learning and memory via recall-gated plasticity" نموذجًا مسمى بـ"التثبيت الانتقائي عبر الاستدعاء recall-gated consolidation".
وفقًا لهذا النموذج عندما تستدعي الذكرى في مرحلة الذاكرة قصيرة المدى يُرسل ذلك إشارة إلى الدماغ بأن هذه الذكرى جديرة بأن تُضمَّن في الذاكرة طويلة الأمد، وبهذه الطريقة لا يُخزَّن كل ما نتعرض له بل تُختار الذكريات الأكثر استجابة للنشاط الذهني الفوري لتُرسَّخ بشكل أفضل.
هذا النموذج يفسر لماذا بعض التجارب التي نفكر فيها مباشرة بعد حدوثها تظل أكثر وضوحًا في الذاكرة، بينما التفاصيل التي لم تُراجع بسرعة تضيع أو تُنسى.
من خلال ما تقدّم يمكننا استخلاص خطوات عملية لتعزيز الذكريات:
1-خصص بضع ثوانٍ من الراحة الواعية بعد أي حدث ذي دلالة (مقابلة، محادثة، تجربة جديدة)، لا داعي لأن تفعل شيئًا ضخمًا فقط أغمض عينيك أو فكّر بهدوء فيما جرى.
2-استدعِ الحدث بسرعة: أعد في ذهنك ما حصل بترتيب زمني حتى إنّك لم تكتب أو تتكلّم عنه، هذا الاستدعاء يعمل كإشارة "بوابة" للدماغ ليخبره أن هذه الذكرى مهمة.
3-لا تنتظر كثيرًا: الفائدة تأتي عندما يكون الاستدعاء قريبًا من وقت الحدث، الانتظار الطويل قد يفقد الفرصة لتعزيز الذاكرة.
4-كرر العملية مع الذكريات المهمة: ليس من الضروري الانشغال بكل شيء بل ركّز على ما تود فعلاً الاحتفاظ به.
كيف تنشط دماغم لحفظ الذكريات
الأبحاث تُقدّم أدلة قوية لكن ليست قاطعة بعد، فتطبيق هذه الأساليب على نطاق يومي أو في مواقف معقدة (مثل الشهادات أو الحوادث الكبرى) يحتاج إلى تجارب إضافية لتأكيد الفاعلية، كما أن الدماغ ليس له آليّة واحدة فالاختلافات بين الأفراد من حيث الحالة النفسية والعمر قد تؤثر على مدى نجاح هذه الحِيل.
ورغم ذلك، فإن الفكرة الأساسية بسيطة وجذابة للاستخدام الفوري لذهننا بعد الحدث ليس مضيعة للوقت بل قد يكون الاستثمار الأفضل لجعل التجربة راسخة في ذاكرتنا مدى الحياة.